الخميس,12 مارس 2015 - 12:00 ص
: 17129

أنهت تونس بنجاح كبير آخر شوط في مسيرة المرحلة الانتقالية الشاقة، التي واصلت اتجاهها الخطيّ، للعبور إلى الجمهورية الثانية، وتفادي أيّ انحراف عن الاتجاه الوطنيّ لتحقيق مبادئ الثورة التونسية
fiogf49gjkf0d
الجمهورية التونسية عام 2014 -التي فاز الباجي قايد السبسي برئاستها بـ55.68% من الأصوات- تختلف عن نظيرتها عام 1957 في كل شيء تقريبا : التعددية الحزبية الحقيقية, والدستور المجمع عليه, وحرية التعبير، والاختيار ترشحا وتصويتا.
يعتبر زعيم حركة نداء تونس الباجي قايد السبسي أبرز مرشحي الرئاسة بعد أن حصل حزبه على المركز الأول في الانتخابات التشريعية حاصدا 85 من أصل مقاعد البرلمان الـ217.
ويأتي الرئيس الانتقالي المنصف المرزوقي ثانيا من حيث الأهمية والحظوظ بعد السبسي. ويرتبط ذلك بالدعم القوي الذي توليه له قواعد حركة النهضة الإسلامية التي حصلت على 69 مقعدا والتي فوضت أنصارها اختيار مرشح يقطع مع النظام السابق ويحمي أهداف الثورة. ومثل هذه المواصفات يقول قياديون في حركة النهضة إنها تتوفر لدى المرزوقي.
من الغريب أن نقول عن تونس الجديدة، بقيادة الرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي، أنّها قد "حسمت تمسّكها بالمبادئ والثوابت البورقيبية"، التي تأسّست عليها الجمهورية الأولى، بعد أن جرّبت الديمقراطية "الفوضوية" خلال السنوات الثلاث الماضية، ووضعت دستورها الجديد في 26 يناير 2014 بصعوبات كبيرة خلال فترة اشتغال المجلس الوطنيّ التأسيسيّ، لتسير في طريق تشييد مؤسساتها الدستورية الجديدة، وفي مقدمتها البرلمان.
أجمل ما قيل عن نتائج هذه الاستحقاقات التونسية التاريخية، ما ورد على لسان زعيم حزب نداء تونس، السيد الباجي قائد السبسي، الذي قال إنّ تونس قدّمت "نموذجا حضاريا" للانتقال الديمقراطيّ الهادئ، وأنّها ستلتفت الآن إلى مرحلة الاستقرار السياسيّ وتحريك عجلة التنمية المعطّلة، ملخّصا حصيلة مرحلة ما بعد الثورة، في أمله، تحويل المواطن التونسيّ إلى مواطن "سعيد" في بلده، بعد أن تأكّد لزعيم حركة نداء تونس، أنّ ما قيل عن الشعب التونسيّ، بأنّه "شعب تعيس"، هو ظرف تاريخيّ طارئ، وليس لازمة أبدية، واعدا بجلب استثمارات أجنبية ضخمة، بالاعتماد على رصيده التاريخيّ والدبلوماسيّ على رأس وزارة خارجية الدولة التونسية، أو غيرها من المناصب السياسية الهامة، التي تقلّها هذا الرجل، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، خلال 30 عاما، بين سنتي 1956 إلى 1986.
لم تتأثّر التجربة الديمقراطية التونسية، بالمخطّط المعدّ لإجهاض ثورات الربيع العربيّ، على مستوى إقليميّ، ولم تهدّدها الظاهرة الإرهابية، التي لا تمتلك قاعدة شرعية وسط التونسييين والتونسيات، كما أنّها لم تسمح لأيّ احتجاج يقوم على توظيف "ورقة الشراع" في الانحراف بالمسار الخطيّ للثورة، نحو مسار مظلّل قد يكون سببا في انتهاك حريات الشعب التونسيّ، التواق إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.
كما لم تتأثّر تونس بضغوط التيارات الإسلامية بمختلف أنواعها، أو تهديدها للعملية الانتخابية ومحصلات تحالفتها الحزبية، خصوصا الخطاب السلطويّ لحركة النهضة بعد انتخابات أكتوبر 2011 لتشكيل المجلس التأسيسيّ التونسيّ ما بعد الثورة، غير أنّ ميل السيد الباجي قائد السبسي إلى إعادة الاعتبار إلى "الإسلام الصوفيّ في تونس"، دلالة على رغبته في "عقلنة الخطاب الدينيّ" في هذا البلد السياحيّ بامتياز، والحدّ من الخطاب الخطير للسلفية الجهادية التونسية، التي أعلنت خلال الشهر الجاري تأكيد مبايعتها لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ومسؤوليتها عن اغتيال السياسيين البارزين، المحامي شكري بلعيد، والنائب في المجلس التأسيسي محمد البراهمي، وقبلهما السياسيّ لطفي النقض، وهو ما يبرىء ساحة حكومة حركة النهضة في تحالف الترويكا الحاكمة خلال المرحلة الانتقالية، التي اتهمت باستخدام رابطات حماية الثورة "كجهاز سلطويّ حزبيّ جماعاتيّ خارج الحكومة"، لتصفية حساباتها السياسية مع خصومها السياسيين، خصوصا الشخصيات السياسية الوطنية.
يمكن تسجيل الملاحظات التالية، على ما حدث في تونس خلال شهري أكتوبر ونوفمبر المنصرمين:
أولا: استحقاق حزب نداء تونس، وزعيمه السيد الباجي قائد السبسي موقع الريادة السياسية في تونس، وعدم تمكّن منافسيه من الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية، من تحقيق هذا القدر من "الأكثرية والأغلبية الداعمة"، وبأريحية واضحة، ما يجعل حركة النهضة كتلة أولى في جبهة المعارضة، وانتقالها من الحكم إلى المعارضة من داخل المؤسسات المنتخبة، والتزامها بمبدأ التداول السلميّ على السلطة، وتهنئة الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، للسيد الباجي قائد السبسي زعيم حزب نداء تونس، واعتراف كليهما بنزاهة حكومة السيد مهدي جمعة، واعتراف السبسي بعقلانية الشيخ الغنوشي والتنازل التاريخيّ لحركة النهضة عن السلطة، لصالح بديل توفقيّ محايد، لتفادي وقوع أية أزمة سياسية قد تتسبّب في وأد التجربة الديمقراطية التونسية الفتية.
ثانيا: تهنئة المنصف المرزوقي، الرئيس الأسبق خلال المرحلة الانتقالية، لمنافسه المنتصر في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، وقبول زعيم حزب نداء تونس التهنئة، وإعلانه تجاوز جميع الخلافات والتصريحات الصراعية التي شهدتها الحملة الانتخابية. وهو دليل على أنّ زعيم حزب نداء تونس، هو بحقّ "رجل مصالحة" ورجل المرحلة المرشّح لتحقيق الإجماع الوطنيّ على "بناء تونس الجديدة"، وجمع كافة المتناقضات تحت قيادته باعتباره "رئيسا لجميع التونسيين"، فعلى الصعيد الميدانيّ، ستستمر الحكومة التونسية في أداء عملها إلى فبراير 2015، قبل تسليم السلطة للرئيس المنتخب والإعلان الرسميّ عن انتهاء المرحلة الانتقالية المتلاشية، الهادمة البانية)، التي كتبت واحدا من أبرز محطات عبور التونسيين نحو دولة الحقّ والقانون، وهي فرصة كافية لمراجعة حصيلة الانتخابات، والتفكير في تحالفات أو تفاهمات حزبية، لبناء مؤسسات دستورية، يجري تكثيف الصراعات السياسية داخلها، للحدّ من ديمقراطية "سياسات الشراع" وديمقراطية الاحتجاج Protestocracy، حيث تهيأ للتونسيين أنّ الثورة، قد افتتحت عصر الوعود الدستورية، والتسويات الاجتماعية، لمرحلة طويلة من المظاهلم والقهر المتراكم خلال خمسة عقود من الحكم الأحاديّ، خلال عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة، وزين العابدين بن علي.
ثالثا: لاحظت كمراقب سياسيّ أيضا قبول الجزائر، التي التزمت الحياد التامّ، لنتائج الانتخابات وتهنئتها للرئيس المنتخب، عن طريق سفيرها لدى تونس، السيد عبد القادر حجار، الذي أكّد دعم الجزائر للسيد الباجي قائد السبسي، واحترامها إرادة الشعب للتونسيّ الشقيق والجار. ومن الواضح أنّ وساطة الرئيس بوتفليقة ودعمه للسيد مهدي جمعة، قد دعمت دور الاتحاد التونسيّ للشغل UGTT، في حلّ أزمة مطالبة بعض الفصائل السياسية، كحركة تمرّد تونس مثلا، حلّ المجلس التأسيسيّ وجميع السلط المنبثقة عنه، والانقلاب على سلطة الترويكا في تونس، كما حدث في مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013، فقد أكّدت هذه المسألة حياد الجيش التونسيّ، الذي لا يرغب في لعب أيّ دور سياسيّ خلال المرحلة الانتقالية أو غيرها، وهو منشغل في محاربة الإرهاب في جبال الشعانبي، ومراقبة تداعيات انفجار الأوضاع في ليبيا، الجار المهدّد بالتقسيم والانهيار الوشيك، ومصدر الأسلحة والتهديدات المقبلة للدولة التونسية.
رابعا: إنّ تونس تقترب من بدأ مرحلة جديدة من منح الحريات لجميع التونسيين ومن دون أيّ استثناء، ويعني ذلك تنظيم فرص عودة "التجمّعيين/فلول نظام الرئيس بن علي وحزبه الحاكم"، حيث أنّ معظمهم قد وقع ضحية النمط التسلطيّ في الحكم، ولا يمكن لتونس أن تقصي أيّا من أبنائها تحت حجج تطبيق مبدأ العزل السياسيّ لحماية الثورة، وأحسن ما يقال ضمن هذا السياق أيضا، أنّ تصالح تونس مع أبنائها، يقتضي بناء الإجماع الوطني للجمهورية الثانية كما حدث مطلع ثورة 14 يناير 2011، أملا في بلوغ إجماع الجمهورية الأولى عند نيل تونس استقلالها السياسيّ سنة 1956.
في سبيل الختام: انتقل هذا البلد الصغير في حجمه الجغرافيّ، إلى نموذج كبير في سياساته المحلية، التي تستطيع تحقيق حلم الترسيخ الديمقراطيّ، خلال المرحلة المقبلة ومن دون أيّ تدخّل في الشؤون الداخلية للدولة التونسية، ولم يعد أمام التونسيين سبب في ممارسة الرفض المستمرّ، أو خوض الاحتجاجات غير المنتهية، خارج الأطر التقليدية للعمل الحزبيّ والنقابيّ والجمعويّ، ومن هنا يمكن أن نؤكّد أنّ تونس المقبلة ستشهد بناء مؤسسات دستورية راسخة، تتكثّف داخلها الصراعات السياسية، بأكبر قدر من الإشراك في القرار والاقتناع به، وبأقّل درجة من العنف والفوضى.