ديناميكية الاحتجاج والإصلاح

13-07-2012 06:24 AM - عدد القراءات : 21352
كتب ترجمة عبير الفقي الباحثة بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية berbera72@yahoo.com
نعمم في هذه الورقة من خلال الملاحظة الحثيثة لنوعين من الأحداث الاحتجاجات الشعبية، والإصلاحات السياسية ونسعى إلى فهم تكرارها وطبيعتها والعلاقة بينهما ولجمع معلومات قمنا بتجميع الأخبار عن أي احتجاجات وإصلاحات على مدى عام ونصف بعد سقوط سور برلين في التاسع من نوفمبر 1989 وكان مجال الدراسة محدودا بالأنظمة الأفريقية التي لديها امكانية للتحول السلمي إلى الديمقراطية ولم تحققها بعد.

fiogf49gjkf0d


 وتم اسبعاد الدول التي لديها حروب أهلية، أو في مرحلة انتقالية من حكم عسكري إلى حكم مدني، أو الدول التي لديها نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب. ومن الدول ال46 جنوب الصحراء اخترنا لهذه الدراسة عينة من 30 دولة "تحت الإصلاح".

ولأن الإعلان عن الإصلاح السياسي هو النقطة الفاصلة في العمليات التي ندرسها، يجب علينا التعرف على ما هية الإصلاح. فهناك العديد من الأنشطة الحكومية التي يمكن أن نقول عنها أنها تندرج تحت الإصلاح السياسي، بدءاً من التعديل في القواعد الحزبية والإدارية، إلى التقدم بدستور جديد للبلاد. وفي هذه الدراسة

نستخدم تعريف براجماتي وسلوكي شامل: الإصلاح السياسي هو أي إجراء تتخذه النخبة الحاكمة لزيادة التنافس السياسي. فحين يعترفون بحق الجماهير مثل حرية التعبير السياسي وحرية التجمع السياسي يمكن وصف الإصلاح السياسي بأنه "تحرر سياسي". ولكن حين يتم عقد انتخابات حرة ونزيهة لاختيار السياسيين يمكن القول بأن "الانتقال الديمقراطي" قد بدأ.

ففي مختلف البلاد الأفريقية هناك قضايا ومواقف وتصادمات وتعديلات ونتائج متعددة في عملية الاحتجاجات-الإصلاحات. وبرغم هذه التعددية، فإننا نقترح أدناه تسلسل مبدئي لمراحل الاحتجاجات الشعبية ورد الفعل الحكومي المشترك في العدد من الدول الأفريقية مع ملاحظة أن البعض قد تقدم أكثر من الآخر في هذه السلسلة.

 

ميلاد الاحتجاجات الاقتصادية

 عاشت 16 دولة أفريقية احتجاجات شعبية هامة بعد نوفمبر 1989. وتحديد نقطة تكوين هذه الاحتجاجات صعب لأنه لا يوجد نقطة منطقية لبدء تسلسل تاريخي. فلم يكن الأفارقة سلبيون في وجه مستويات المعيشة المتدنية والمخالفات الحكومية، فقد عبر الطلبة والموظفون والعمال والمهنيون عن آرائهم من خلال إضرابات ومظاهرات ومسيرات ومقاطعات. على سبيل المثال شهدت زامبيا احتجاجات عنيفة في ديسمبر 1986 حينما تضاعف سعر الذرة نتيجة نقص الدعم من خلال خطة تعديل اقتصادي يدعمها صندوق النقد الدولي. وضجت عاصمة بنين، كوتونو، بإضرابات القطاع العام خلال 1989 حينما احتج الموظفون على التأخيرات المتراكمة لمرتباتهم. وعبر السنوات، كانت الجامعات مسرحا للتعبير عن المعارضة في الدول الأفريقية. وهكذا فعدم الاستقرار في 1990 تبع مجموعة من السوابق.

بدأت الاحتجاجات عادة كمطالب فئوية لجماعات اهتمام تسعى إلى تحسين أوضاعها المادية في مجالها الخاص في الاقتصاد. والقلاقل التي تظهر من خلال مظاهرات الطلاب اعتراضا على القرارات التقشفية للحكومة التي تؤثر عليهم مباشرة. في يناير 1990 اعترض الطلاب في الجابون على نقص المعلمين والإمكانات الدراسية القليلة. وفي كوت ديفوار أشعلت الانقطاعات المتكررة للكهرباء قبيل اختبارات منتصف الفصل الدراسي الاحتجاجات الأولى في فبراير 1990.

ولكن لم تكن كل الاحتجاجات الطلابية محدودة وذات مطالب مادية. ففي زيمبابوي في أكتوبر 1989 تفجرت الاحتجاجات الطلابية بسبب موضوع الفساد وتصاعدت بسرعة لانتقادات للحكومة بسبب استخدامها لحالة الطوارئ للقضاء على المعارضة. وفي فبراير 1990 شجب الطلبة في كينيا – الذين اشتكوا طويلا من المباني التعليمية المزدحمة والنسب العالية للبطالة – تورط قوات الأمن الحكومية في مقتل وزير الخارجية روبرت أوكو.

وجمع عدم الاستقرار زخما حينما صار المتنفس لتحالف من مختلف المطالب الفئوية. أنضم المعلمون والموظفون إلى الطلبة للشكوى من تأخر المرتبات، وتقليص الدعم، أو – مثل الحال في كوت ديفوار – إحتمال تخفيض الرواتب. ففي بنين صارت التظاهرات من الطلبة والموظفين مزمنة في أواخر 1989 حينما وصل التأخر في المرتبات إلى 7 أشهر. وفي زامبيا وكينيا وأماكن أخرى حفز الطلبة العمال على الانضمام إلى الشجب العام للآثار السلبية للتضخم على مستوى المعيشة.

رد الفعل الحكومي المبدئي

ردت الحكومات على هذه الاحتجاجات الأولية بتركيبة معروفة من التهديدات والقمع والتسويات الاختيارية. وحينما مست الاحتجاجات موضوعات اقتصادية حاول القادة تهدئة المحتجين بامتيازات تدريجية. ففي كوت ديفوار على سبيل المثال قلل رئيس الدولة نفقات غرفة ومجلس الطلاب وأخر – قبل أن يلغي تماما – تخفيض الرواتب. وبالمثل أعلن رئيس الجابون عن مقياس جديد للرواتب وإصلاحات في التأمين الصحي والاجتماعي.

ولكن حينما كان للاحتجاجات مطالب سياسية اتجهت الحكومات مباشرة إلى القمع. أمر رئيس كينيا وحدات شبه عسكرية أن تفتح النار على المعزين في
جنازة أوكو وحظر التظاهر و"ترويج الشائعات". وأغلقت الحكومة في زيمبابوي الجامعة واعتقلت القيادات الطلابية ورئيس اتحاد النقابات العمالية بدون محاكمات. وفي شمال غرب الكاميرون قتلت الشرطة 6 محتجين على الأقل في محاولة لتفريق تجمع غير قانوني نظمه حزب سياسي محظور: الجبهة الاجتماعية الديمقراطية.

وقد نفدت الحلول الاقتصادية لدى بعض القادة واضطروا إلى عمل بعض التنازلات السياسية. حدث هذا أولا في بنين حينما أدت الحالة الاقتصادية المتردية وانسحاب الدعم الفرنسي وفقدان الحكومة شبه الكامل للمصداقية إلى انهيار الحكومة في أواخر عام 1989. وقام الرئيس كيريكو بعدة جهود لاسترضاء معارضيه. فسمح لعدد من الوزراء المستقلين بدخول الوزارة في أغسطس، وأصدر عفوا شاملا في سبتمبر، وتخلى عن الفكر الماركسي في ديسمبر. ولكن حينها هجره حلفاؤه في السلطة. أبعد قادة الجيش أنفسهم عن النظام، في حين قفز اتحاد العمال التابع للحكومة إلى صفوف المعارضة.

ولكن لم تكن كل الدول في حالة اقتصادية متردية مثل بنين. غالبية الحكومات تمكنت من حشد مؤيديها كخطة لتقوية التحالف الحاكم وعزل وتقويض المعارضة. فتم تنظيم مسيرات تأييد لحكم الحزب الواحد، على سبيل المثال، في الكاميرون (مارس 1990)، وكوت ديفوار (أبريل)، وتوجو (مايو). ولجأت بعض الدول إلى أساليب شديدة في التخويف: اعتقل قادة المعارضة في كينيا وكوت ديفوار والكاميرون، واغتيل جوزيف رانجامبي أمين عام حزب المعارضة الأقوى في الجابون.

 

تسييس المطالب

في السنوات الماضية كانت هذه الخطط الحكومية تنجح في القضاء على التظاهرات. لم يحدث هذا في 1990 و1991. على العكس، فقد تصاعدت المطالبات الشعبية. والسؤال "لماذا؟" سيتم الحديث عنه لاحقا، ولكن الآن سنكتفي بتسجيل أن المحتجين زادوا جرأة وصعدوا وحولوا مطالبهم إلى مطالب سياسية. بدأ المحتجون المطالبة بتغييرات سياسية منهجية نتيجة الصعوبات الاقتصادية الزائدة وردود الفعل الحكومية القاسية. وللمرة الأولى تنحت المطالب الفئوية جانبا لتفسح لطلب الإطاحة بالقادة السياسيين. بدأ المحتجون يربطون بين الصعوبات الاقتصادية التي يعانون منها والفساد السياسي وسوء الإدارة. وبدأت الشعارات تربط بين الدين العام والأموال التي تنهبها النخبة. في كوت ديفوار على سبيل المثال، استهدفت الاحتجاجات كاتدرائية ياموسوكرو، التي بنيت على نسق كتدرائية سان بيتر في روما، والتي أنفق عليها الرئيس هوفوي بويني حوالي 145 مليون دولار أمريكي. وفي زائير، صدم الرئيس موبوتو سيسيسيكو – الذي بدأ الانفتاح السياسي بانتزاع التعليقات من الجماهير على حكمة – حينما وجهت له انتقادات لاذعة من الكنائس والطلبة والنقابات العمالية ورجال الأعمال يتهمونه والمقربين منه بالاستئثار بالسلطة والسطو على المال العام. ورفع الموظفون المعتصمون شعار "Mobutu voleur!" (موبوتو اللص!).

واكتسب قادة المعارضة – الذين بدت معارضتهم الشجاعة وغير المعلن عنها غير مهمة – جمهورا جديدا. في الكاميرون، أثار اعتقال ومحاكمة الكاتب الأنجلوفوني ألبرت موكونج بتهمة "الأعمال التخريبية" اهتماما عالميا أدى إلى إضراب المحامين. وفي كوت ديفوار ساهم الإعلام في دفع المعارضة مع زيادة الاحتجاجات الطلابية التابعة للأستاذ الجامعي لوران جاباجبو. وفي كينيا حينما خطب الأسقف أوكيللو وموجي والكاهن تيموثي نجويا ضد الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان وجدوا أنفسهم قادة لحركة اجتماعية ناشئة. وفي دول أخرى أيضا دعم رجال الكنيسة الإصلاح ..

وفي هذا الجو، وجد السياسيون المعارضون الفرصة سانحة لترويج فكرة التعددية الحزبية. ففي زامبيا، مهد فريدريك شيلوبا رئيس اتحاد النقابات العمالية في زامبيا الطريق أمام الحوار حول التعددية الحزبية حينما سأل على الملأ مشيرا إلى أوروبا الشرقية: "إذا كان ملاك الاشتراكية تخلوا عن نظام الحزب الواحد، فمن نكون نحن الأفارقة لنستمر به؟" وأعلن شيلوبا في مايو 1990 داعيا إلى استفتاء حول التعددية الحزبية أن " اتحاد النقابات العمالية في زامبيا يؤمن أن نظام الحزب الواحد يسهل الاستغلال، لا ينبغي على من هم في السلطة التحكم في التغيير السياسي ولكن على الجماهير أن تفعل." وفي الكاميرون، قبض على يوندو بلاك نقيب المحامين الأسبق في فبراير لمحاولته إنشاء حزب سياسي معارض، وأدى القبض عليه إلى دعوات النقيب التالي برنارد مونا لإقامة انتخابات تعددية. وفي كينيا في مايو 1990 دعا وزيران سابقان – كينيث ماتيبا و تشارلز روبيا – إلى مؤتمر صحفي للمطالبة بالدستور الذي يسمح بتعدد الأحزاب.

وبعد هذا لم يصبر المحتجون في الشوارع كثيرا على تبني قضية التعددية الحزبية. وفي هذه ا لمرحلة تحولت المظاهرات الشعبية إلى أسوأ موجة من العنف منذ الاستقلال. في زامبيا في يونيه 1990 قاد الطلبة الجموع في احتجاجات في لوساكا منشدين شعارات مؤيدة لتعدد الأحزاب وتم فيها إشعال تمثال يصور دور الرئيس كاوندا في الصراع الوطني. وأدى اعتقال ماتيبا وروبيا ومنع الحكومة لمسيرة مؤيدة لتعدد الأحزاب أدى إلى أربعة أيام من السلب والنهب في مراكز المدينة في يوليو 1990. وأضاءت الجماهير علامة النصر تؤكد تأييدهم لفكرة التعددية الحزبية ومطالبين بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. وفي الجابون تحولت الاحتجاجات في بورت جنتيل إلى تأييد إلى الحزب الجابوني التقدمي، حزب معارض حديث الإنشاء. وفي الكاميرون طالب المحتجون من مارس إلى مايو 1991 بحكومة انتقالية ولجنة انتخابية وميثاق وطني لصياغة دستور جديد.

وأينما ترفع المطالبات بالتعددية الحزبية رأسها، يرفع القادة السياسيون حملة أيديولوجية دفاعا عن الوضع الحالي. وكانت حيثياتهم تعيد الآراء القديمة عن مميزات نظام الحزب الواحد إلى الحياة وغالبا يعني استجابة مبالغ فيها للأحداث الشعبية. حذر رئيس زامبيا كاوندا أن المنافسة الحزبية ستمثل عودة إلى "سياسيات العصر الحجري" بالتحريض على النزعات الطائفية والعنف خلال الانتخابات. وفي حديث تليفزيوني، قال رئيس الكاميرون بول بايا أن نظام الحزب الواحد هو الطريقة الوحيدة للتغلب على الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وكان رئيس كينيا موي ورئيس زيمبابوي موجابي صاخبين في رفض جهود الحكومات الغربية في دعم تعددية الأحزاب على أنها تدخل في سيادة الدول الأفريقية. وما وراء السطور في كل هذه المقولات هي فكرة واحدة ذكرها الجنرال كولينجبا رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى أن "البلاد ليست مهيئة بعد (لديمقراطية تعددية)." ومما يثير السخرية أن هذا نفس ما كان يقوله الاحتلال لتأخير منح الدول الأفريقية استقلالها السياسي.