السبت,14 يناير 2012 - 10:33 م
: 3023
كتب كفاح محمود كريم
kmkinfo@gmail.com

دولة القرية والديموقراطية العرجاء؟ إن ديمقراطية في بلاد تنتهج الأسلوب العشائري والولاء القبلي والقروي في حياتها، وما يزال أكثر من نصف سكانها من الأميين ستكون ديمقراطية عرجاء ولن تنتج إلا مؤسسات معاقة جينيا؟



edf40wrjww2News:news_body
fiogf49gjkf0d
 يتذكر العراقيون مطلع السبعينات من القرن الماضي كيف اتخذ الرئيس العراقي الأسبق احمد حسن البكر قرارا بمنع الألقاب واستخدام اسم العشيرة أو المنطقة أو حتى الاسم الرابع للشخص، في محاولة متواضعة لإيقاف المظاهر العشائرية ظنا منه بأن هذه الخطوة ستنهي نظاما تكلس في مفاصل وهياكل المجتمع العراقي منذ مئات السنين، ويحتاج إلى عملية تغيير اجتماعية وتربوية واقتصادية وثقافية ليست بالقصيرة، تحرر الفرد والمجتمع من القيود العشائرية والآليات التي تربط ذلك الفرد بنظام العشيرة وشيخها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، من خلال وضع أسس رفيعة للمواطنة التي ترتقي في مفاهيمها على العشيرة والمنطقة والدين والمذهب والعرق والقومية ليكون الولاء للشعب والوطن بكافة مكوناته وطبقاته وشرائحه، إضافة إلى إشاعة التعليم وتطوير البنية التحتية للريف وإيصال الكهرباء والمواصلات والمدارس ومراكز الصحة والتصنيع والوعي بما يحرر الفرد من أثقال النظام العشائري وينقله تدريجيا إلى النظام المدني.

    لكننا سرعان ما أدركنا إن قرار الرئيس البكر ( الذي رفع الألف واللام من اسمه الثالث البكر ليجعله بكر ) كان صورة من صور الصراع العائلي بين أطراف الحكم آنذاك، فبينما كان نائبه يُعرف وقتها بصدام التكريتي ووزير دفاعه حردان التكريتي وشقيق نائبه برزان التكريتي وتنهج مجموعة صدام نفس ذلك النهج في التعريف، كان صدام حسين يلملم كل أبناء قريته وعشيرته والمقربين منه ( في المرحلة الأولى ) من المفوضين ونواب الضباط والعرفاء وصغار الموظفين في الداخلية والدفاع لكي يدخلهم دورات سريعة ويحولهم الى ضباط في خطوط الحماية وحراسات القصر الجمهوري وديوان الرئاسة ( لصناعة دولة القرية )، حيث كانت الأمور تسير بهذا الاتجاه مع ( السيد النائب ) بينما كان ( بكر ) يحاول إلغاء اللقب ربما ليجرد صدام مما كان يبغيه من استخدام اسم قريته وتأسيس دويلة ضمن الدولة التي يروم تكوينها الرئيس البكر آنذاك.

   ورغم محاولات البكر ومجموعته في إحداث تغيير مهم في بنية القرية والمجتمع العراقي، من خلال الاهتمام بالأرياف والتشجيع على الهجرة المعاكسة للقرويين الذين تركوا قراهم وسكنوا أحزمة المدن، إضافة إلى ما سمي في حينه بالحملة الوطنية لمحو الأمية التي ركزت فعالياتها في الأرياف، إلا إن الطرف الثاني كان يؤسس شيئا آخر يناقض توجهات البكر ويعمل على تكريس العشائرية والمناطقية من خلال تكثيف تلك العقلية في المدن ومفاصل الدولة المهمة في الدفاع والداخلية والتعليم، حتى عشية الحرب العراقية الإيرانية وبداية عسكرة المجتمع وفصله إلى مناطق ومذاهب وأعراق واستكمال عملية ترييف المدن وبناء أسس دولة القرية.

    وبذلك تكلست تلك العقلية والثقافة التي اعتمدت العشائرية والمناطقية في مفاصل مهمة من المجتمع، وخلال ما يقرب من ثلاثين عاما غزت تلك العقلية والسلوك والانتماء أغلبية المدن بمظاهرها وتقاليدها حتى تسببت في مسخ وضياع هويتها أمام طوفان الأمية التي عادت مكللة بالأمية الحضارية وأفواج من القرويين العشائريين ذوي الرتب الحزبية والعسكرية والأمنية التي أنتجتها ماكينة إعلام السلطة وسياساتها لعقود طويلة في تسطيح العقول وتقزيمها وغلق حدودها وقنوات اتصالها حتى تحول العراق عشية الحرب والاحتلال والسقوط إلى قرية من قرى الخمسينات من القرن الماضي، لا يفقه أي شيء مما يدور حوله وهو المقطوع والممنوع عن كل ما يمت بالحضارة من صلة بدءا بالجامعات والمعاهد ومراكز البحوث والدراسات والصحف والمجلات وانتهاءً بالهاتف النقال والانترنيت وأجهزة استقبال القنوات الفضائية، واقتصرت بلاد النهرين العظيمين ونفوسها الذي يقارب الثلاثين مليونا على ما يضخه النظام على طريقة مفردات البطاقة التموينية المهينة، والتي أصبحت الحبل السري للمواطنة العراقية التي كان يريدها النظام السابق ويستخدمها ضد مواطنيه؟

     واليوم وبعد ما يقرب من تسع سنوات عجاف كان يفترض أن تكون سنوات خير وسلام وازدهار وبناء، تحولت رغم كل الاضاءات الخلاقة للحرية الى ساحات تكثفت فيها العقلية التي سادت لعشرات السنين وما صاحبها من سلوكيات وممارسات والتي دمرت البلاد والعباد طيلة أربعين عاما ما زالت تلك العقلية تديم  نافورة الدماء والجدب وتخلط الحابل بالنابل لتشوه الحقائق، ويتساوى فيها الانتهازي والمناضل، تلك العقلية التي ما تزال مهيمنة على معظم مفاصل الدولة وحكامها وبمختلف المستويات، بل وزادت حدتها من خلال دعم الحكومة والمتنفذين في مفاصلها على مقادير البلاد سياسيا واجتماعيا، فهم يكرسونها ويعملون على إدامتها وتفعيل آلياتها البدائية حتى في المدن التي يفترض أنها أي تلك الثقافة أقل سطوة، إلا إننا نشهد عمليات تثوير حادة لتلك العقلية والسلوك من خلال المؤتمرات العشائرية التي تعقدها الحكومة وتدعمها الأحزاب والكتل المتنفذة في البلاد.

     وحقا لا يدرك المرء أين تتجه البلاد بهذه الحمولات والأثقال البعيدة عن مفهوم المواطنة الحقة، بسلوكياتها وتقاليدها الاقصائية، القبلية تارة والمذهبية تارة اخرى، وبانتماءات لا يضاهيها أي انتماء ينافس القبيلة أو المذهب أو القومية والدين، في بلاد تعج بالأعراق والقوميات والمذاهب والأديان، ولا يرتضي أي منها بعد اختراق حاجز الخوف وسقوط دولة الرعب والإرهاب، حكم أي من المكونات تحت أي تسمية أو شكل ما لم تنمو مفاهيم متفق عليها للمواطنة التي تجعل من الكل كأسنان المشط وبأطوال متساوية، وحتى تحقيق تلك المفاهيم والمشتركات فإن:  ديمقراطية في بلاد تنتهج الأسلوب العشائري والولاء القبلي والقروي في حياتها، وما يزال أكثر من نصف سكانها من الأميين ستكون ديمقراطية عرجاء ولن تنتج إلا مؤسسات معاقة جينيا؟

kmkinfo@gmail.com


اقرأ ايضآ

رأس الحكمة مخافة الله
بواسطة محمد ابونار
الأربعاء,20 يونيو 2012 - 12:08 م
إقرا المزيد
من يعلق آمالا على عودة اللقاءات
بواسطة khmosleh
الإثنين,2 يناير 2012 - 09:50 ص
إقرا المزيد
عفوا ايها القانون
بواسطة محمد ابونار
الأربعاء,29 فبراير 2012 - 01:56 م
إقرا المزيد
Les Gardes Communaux iront pour un Front National de la Décennie Noire
بواسطة abane
الثلاثاء,11 ديسمبر 2012 - 02:21 م
إقرا المزيد
كوردستان والاسس النبيلة
بواسطة kmkinfo
السبت,26 أبريل 2014 - 01:20 ص
إقرا المزيد

التعليقات

الآراء الواردة تعبر عن رأي صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع




الأكثر قراءة

عقوبات التزوير في القانون المصري - عدد القراءات : 79742


الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي: رياح التغيير تعصف بعروش الدكتاتوريات العربية - عدد القراءات : 63057


تعريف الحكومة وانواعها - عدد القراءات : 55008


النظام السـياسي الفرنسي - عدد القراءات : 52367


طبيعة النظام السياسي البريطاني - عدد القراءات : 51094


مفهوم المرحلة الانتقالية - عدد القراءات : 48468


معنى اليسار و اليمين بالسياسة - عدد القراءات : 45931


مفهوم العمران لابن خلدون - عدد القراءات : 45378


ما هى البورصة ؟ و كيف تعمل؟ وكيف تؤثر على الاقتصاد؟ - عدد القراءات : 44198


منظمة الفرانكفونية(مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية) - عدد القراءات : 43612


الاكثر تعليقا

هيئة الرقابة الإدارية - عدد التعليقات - 38


اللقاء العربي الاوروبي بتونس من أجل تعزيز السلام وحقوق الإنسان - عدد التعليقات - 13


ابو العز الحريرى - عدد التعليقات - 10


الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي: رياح التغيير تعصف بعروش الدكتاتوريات العربية - عدد التعليقات - 9


لا لنشر خريطة مصر الخاطئة او التفريط في شبر من أراضيها - عدد التعليقات - 7


الجهاز المركزي للمحاسبات - عدد التعليقات - 6


تعريف الحكومة وانواعها - عدد التعليقات - 5


الليبرالية - عدد التعليقات - 4


محمد حسين طنطاوي - عدد التعليقات - 4


أنواع المتاحف: - عدد التعليقات - 4


استطلاع الرأى